Maroc Confidentiel

مشروع رسالة ملكية إلى ندوة سفراء صاحب الجلالة

مشروع
رسالة ملكية
إلى ندوة سفراء صاحب الجلالة
الرباط، 30 غشت 2013


سفراءنا الأوفياء،

أصحاب السعادة،

السيدات والسادة،

يسعدنا أن نتوجه إلى هذه الندوة الهامة لسفراء جلالتنا في الخارج.

تشكل هذه الندوة فرصة سانحة لتقديم نظرة فاحصة حول الدبلوماسية المغربية من خلال مكتسباتها وقدراتها وتحدياتها. وتمثل أيضا إطارا مناسبا لتعزيز التنسيق وتحديد الخطوات والمبادرات التي ستقود، وفقا لتوجيهاتنا السامية، الدبلوماسية المغربية، عبر السنوات المقبلة، بغية تقوية مكانة المملكة كعضو مسؤول ومحترم داخل المجتمع الدولي برمته.

السيدات والسادة السفراء،

بعيدة كل البعد عن أن تكون ميدانا للمعجزات، تبقى الساحة الدولية مجالا متميزا تتجلى فيه قدرة كل أمة على تعبئة أحسن مواردها، باستمرار وإصرار، لجعلها واق قوي لمصالحها العليا.

أصبح هذا الطموح، المشترك بين الأمم، أكثر صعوبة بسبب الوضع الدولي الراهن، الذي، بفعل تعقيده الكبير وتنامي ضبابيته وحركيته المستمرة وشكوكه التي لا تتبدد، يمتحن، بشكل دائم، إبداع العمل الدبلوماسي وقدرته على التأقلم.

إذا كانت الدبلوماسية المغربية لا تشد عن هذه القاعدة العامة، فإنه يمكنها أن تعتمد على المقومات الذاتية للمملكة وتطورها الهادئ ضمن حضيرة الأمم، لكي تتمكن من استغلال الفرص التي يتيحها، مع ذلك، هذا العالم المتغير بكل مهارة وبعد نظر.

بالإضافة إلى ما تـُـنتجه من تطورات، تعد الساحة الدولية وعاءا لتحولات عميقة، تتأكد، خصوصا، من خلال إفراز تنوع غير مسبوق في مراكز القوى والقرار والتأثير.

بالرغم من الابتعاد عن منطق الثنائية القطبية الذي كان سائدا من قبل، فإن الجيوسياسية الدولية سترى دائما تعايش رواسب النظام العالمي المـُـحدث ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإرهاصات نظام دولي جديد لم تكتمل بعدُ معالمه.

وعليه، فحتى وإن تعددت المنتديات الدولية للحوار والتنظيم (مجموعة الثمانية ومجموعة 20 ومجموعة 11 ومجموعة 2…)، ستستمر بنيات اتخاذ القرار السابقة (مجلس الأمن والبنك الدولي) تضطلع بدور أساسي. وعلى الرغم من انبثاق قوى جديدة، ذات بعد دولي، (BRICS : البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، مدعمة بــــنـُمُـوي اقتصادي قوي والتزام دبلوماسي تطوعي، فإن القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية تواصل لعب دور حاسم في الساحة الدولية. ثم مهما تصاعدت مكانة المنظمات الدولية غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات في الساحة الدولية، فإن ذلك لا ينقص في شيء من القدرة الجيوسياسية للدول.

لقد أصبح تعدد مراكز القرار الدولية واتساع مجال العمل الدبلوماسي أمام محك بسبب الأزمات المتكررة التي يعرفها النظام الدولي. تلكم الأزمات، المتوازية والحادة والشاملة، تؤثر على مجالات الاقتصاد والمال والبيئة والأمن الغذائي والسياسة، وتولد عبأ اجتماعيا مُهما. وإذا كانت هذه الأزمات تمس بشدة بلدان الجنوب، فإنها لا تستثني بلدان الشمال.

من هذا المنظور، فإن الموقع الجغرافي للمغرب يجعله في قلب محيط إقليمي متقلب بشكل خاص، إذ يواجه شركاؤنا الأقربون صعوبات اقتصادية غير مسبوقة، ويجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام تحديات مرتبطة أصلا ببنائه. في الساحل والصحراء، تتجلى التحديات في شكل تهديدات حقيقية للاستقرار السياسي والوحدة الوطنية لبلدان المنطقة، مما يزيد من هشاشة الحالة الاقتصادية ويؤدي، آليا، إلى تفاقم حدة الأزمات الاجتماعية والإنسانية التي تواكب عدم الاستقرار السياسي. أما العالم العربي، فيعيش على إيقاع انتقال سياسي واجتماعي حافل بالآمال والمخاطر. وقد زادت الأزمة السورية، خاصة بسبب رعبها الذي لا يوصف، تعقيدا للوضع في الشرق الأوسط حيث استمرار المأساة الفلسطينية يرهن، أكثر من أي وقت مضى، مستقبل السلام في المنطقة والعالم.

مهما يكن، فإن هذا السياق الدولي، متعدد الجوانب والمتقلب، يبقى حاملا للعديد من الفرص بالنسبة لبلادنا.

مما يجعل الطريق فسيحا للمغرب في هذا السياق الصعب هو اتزان مقاربته، الذي يسمح له بتعزيز بناء دولة القانون، وإثبات تشبثه، الذي لا رجعة فيه، بالمبادئ الديمقراطية المعترف بها دوليا، في انسجام مع تقاليده وقيمه المتجذرة. تكتسب القيم الديمقراطية المتعلقة بحق المعارضة وحرية الصحافة ونصرة الحقوق الأساسية في التنمية والمشاركة في الحياة العامة، والتي تم تضمينها بشكل استباقي في الدستور الجديد، قوة أكبر حينما تكون أساسا لنموذج انتقال ناجح في سياق هادئ. إضافة إلى ذلك، تؤمن ديناميكية مجتمعنا المدني انفتاحا محمودا على المنظمات الدولية غير الحكومية التي لا محيد الآن عن دورها على الساحة الدولية.

ثم إن براغماتيكية دبلوماسيتنا وهويتها الأصيلة وشبكة علاقتها المكثفة والمتنوعة تضفيان عليها قدرة التأقلم مع التحولات والبحث عن أهداف ملموسة في خدمة المصالح الوطنية.

ويشكل التضامن الذي ما فتئ المغرب يعبر عنه بكيفية جلية تجاه الشعوب الشقيقة والقوى الصديقة برهانا على أن العزم لا ينقصنا حينما يتعلق الأمر بتحمل مسؤوليتنا ضمن المجتمع الدولي، سواء من خلال مساهمتنا المشهود بها في المكافحة الدولية ضد الإرهاب، أو عبر المشاركة في عمليات حفظ السلام للأمم المتحدة التي تتطلب براعة عالية، أو بواسطة دبلوماسية إنسانية من أجل التخفيف من معا ناة السكان ضحايا الأزمات.

السيدات والسادة السفراء،

تستند المحاور الأساسية المعبئة لهذه الدبلوماسية إلى مرجعية دستورية واضحة وإلى توجيهات دقيقة تم التذكير بها في خطاب العرش الأخير.

يتعلق الأمر بـالترويج لـ »علامة المغرب » والدفاع عن المصالح العليا للوطن، في فضاءات الجوار والشراكة، ومساعدة مواطنينا أينما وجدوا في العالم.

بصفتها امتداد لسياستنا الداخلية، في فلسفتها ومعالمها وأهدافها، فإن الدبلوماسية المغربية مطالبة بإيلاء اهتمام خاص للترويج لـ »علامة المغرب ».

يتطلب ذلك، في المقام الأول، تأمين التعريف بالتجربة الديمقراطية المغربية في إطار التطور المؤسساتي والسياسي الكبير نتيجة الإصلاحات الطموحة التي تمت مباشرتها خلال السنوات الأخيرة. من شأن هذا المنعطف الديمقراطي أن يؤثر على النشاط الخارجي للمغرب بشكل يـُـقوي أسس هويته المتعددة ويكرس مكانته في حظيرة المنتظم الدولي. لقد ترجمت، على أرض الواقع، الإصلاحات البنيوية، المنوه بها بشكل واسع على الساحة الدولية، استجابة أصيلية وعميقة وشجاعة للمغرب أمام تحديات العصرنة وتوطيد الديمقراطية، في محيط إقليمي ينشد بعزم الديمقراطية ويجعل منها كفاح اللحظة.

كما يستلزم الترويج لـ « علامة المغرب » توفير الوسائل للاضطلاع بدبلوماسية اقتصادية مقدامة، قادرة على تعبئة المنظومة الكاملة لأدوات جلب الاستثمارات وتنمية المبادلات الخارجية. في هذا الصدد، تبدو الحاجة مستعجلة من أجل تضافر أحسن للوسائل والقدرات بين مختلف القطاعات الوزارية التي لها نشاط دولي في المجال الاقتصادي، وذلك قصد مواكبة انفتاح المقاولات الوطنية على الخارج.

إننا نهيب بالحكومة اتخاذ التدابير اللازمة لإرساء تعاون استراتيجي مابين الوزارات في إطار استراتيجية حكومية للتنمية الاقتصادية، وعلى الدبلوماسية المغربية أن تقوم بدور متقدم في هذا السياق من خلال إحداث مجلس للتعاون الاقتصادي الدولي لدى وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، تشارك فيه القطاعات الوزارية المعنية والمؤسسات والأجهزة العمومية ذات الطابع الاقتصادي وكبريات المقاولات العمومية والخاصة، إضافة إلى المنظمات المهنية. يتمثل الهدف في تمكين المغرب من الاستفادة من موقعه الجيواستراتيجي، كملتقى للطرق الكبرى للتجارة الدولية، ومن مقوماته كاقتصاد صاعد، ومن الفرص التي يتيحها الاقتصاد العالمي الذي تتزايد شمولية.

أكثر من مجرد شعار، ينبغي أن يغطي مصطلح « علامة المغرب » فكرة معينة عن مغرب منفتح وحداثي وديمقراطي ومستقر، نبنيه جميعا. ينبغي أيضا أن يبرز هذا المصطلح كمقوم دبلوماسي حقيقي، يتم استثماره بمهارة من خلال استراتيجية تموقع، منسجمة، من جهة، مع قيم وطموحات المغرب، ومن جهة أخرى، مع التوجهات الجوهرية للعلاقات الدولية التي تشهد انتقالا حتميا للقوة الجيوسياسية نحو التكتلات الإقليمية حيث تتبلور هذه العلاقات وتتوطد.

يُــعنى المحور الثاني للعمل خلال السنوات القادمة بتنمية استراتيجية التموقع الإقليمي في فضاءات الجوار والشراكة.

في الواقع، نشاهد، في أي مكان حولنا، النمو ، على نحو حاسم، لتجمعات التضامن السياسي والاقتصادي والثقافي أو الجغرافي، في حين تتباطأ خطى « المغرب الكبير » أمام المسار الحتمي للتاريخ، بالرغم من جميع مقوماته، في تعارض مع النظر الاستراتيجي السديد. تــُحتم علينا مسؤوليتنا التاريخية عدم الاستسلام إلى المظهر العنيد لهذا الواقع، مادام الخيار الاستراتيجي للوحدة المغاربية متضمنا في دستور البلاد. وعليه، فإن المغرب سيبقى، أكثر من أي وقت مضى، ملتزما لصالح نظام مغاربي جديد، يستشرف المستقبل بحزم وقادر على السمو فوق كل مصادر الخلاف. إن اقتناعنا هو أن التاريخ يمنح لدولنا المغاربية الخمس زخما جديدا نادرا من أجل دفعة حاسمة لهذا الهدف المشترك. نوجه دبلوماسيتنا إلى مضاعفة الجهود والمثابرة، بدون كلل أو ملل، بهدف الإبقاء على شعلة ذلك العهد الذي عقدناه سنة 1989 بمراكش، أمام شعوب المغرب الكبير وأجياله القادمة.

يكتسي بناء المغرب العربي أهمية كبيرة بالنسبة إلينا، بل إنه سيكفل إشعاع المغرب الكبير ضمن العالم العربي الإسلامي، وسيمثل ضمانة لنجاح آليات التعاون الأورو متوسطي التي نسعى إلى الارتقاء بها إلى مستوى عال من النجاعة والملاءمة. في الواقع، إن النجاح المتنامي لمنتدى 5+5 لا يزيد اقتناعنا إلا قوة بأن التوفيق في المقاربة البراغماتيكية المنشودة من طرف « الاتحاد من أجل المتوسط » يظل مرتبطا بقدرته على توليد طاقات التعاون وفق هندسة متغيرة، دون إقصاء أو استثناء، مع إضفاء الانسجام الشامل على هذه الطاقات الذي يمثل روح العمل الجماعي.

مغاربي بانتمائه ومتوسطي بموقعه، يظل المغرب أيضا بلدا إفريقيا في عمقه. وبصفته فاعل سلام حقيقي، محترم للشرعية الدولية ومتشبع بثقافة حقيقية للتضامن، فإنه ينخرط في العمل في عمقه الإفريقي، مساهما دون كلل في تدعيم السلام والأمن عبر سياسة تدبير الأزمات والدبلوماسية الاحترازية وفي عمليات حفظ السلام في ربوع القارة.

ويواصل المغرب بذلك لعب الدور الذي يضطلع به لدى أشقائه الأفارقة، كما فعل في السابق ودون انقطاع، عبر تاريخه. لذا، فإننا ندعو سفراءنا بالبلدان الإفريقية الشقيقة إلى مواصلة التزامنا بالتعاون جنوب-جنوب، متعدد الأبعاد، من خلال الجمع بين تضامن فعال لفائدة تنمية سوسيو-اقتصادية وتعاون سياسي وثيق لفائدة السلام والاستقرار والأمن المشترك. ويتجسد ذلك من خلال ما يقوم به المغرب في منظمة « السين الصاد » التي يساهم في إعادة تحديد مهامها، للرقي بها إلى مصاف منظومة حقيقية للتنسيق الإقليمي، قادرة على مجابهة تحديات الصراعات الدائمة وسيل التهديدات المصاحبة لها.

بالموازاة مع ذلك، فإن المغرب يعمل أيضا على تعزيز روابطه السياسية والاقتصادية مع المجموعة الاقتصادية لبلدان غرب إفريقيا CEDEAO التي يتقاسم مع أعضائها مجموعة من المصالح والقيم المتجذرة في التاريخ.

وبعيدا عن مجالات انتشارها التقليدية، سيكون من المهم انفتاح دبلوماسيتنا على مناطق جغرافية جديدة وناشئة، ذات إمكانات اقتصادية وسياسية قوية، خاصة في آسيا وأمريكا اللاتينية.

السيدات والسادة السفراء،

حان الوقت للعمل من أجل بناء دبلوماسية متجددة النشاط، تضطلع بدور أكبر في مجال الأمن الوطني وفي ترقية المصالح الوطنية، دبلوماسية تعمل بكيفية رزينة وسط اضطرابات مرحلة التحولات التي نعيشها، وقادرة على تمكين المغرب من تجاوزها بكل أمان.

هذه الدبلوماسية، نراها قوية بمصداقية المغرب الحداثي ومنبثقة من التقاليد السلمية والشرعية لمملكتنا منذ آلاف السنيين. نريدها دبلوماسية نشطة واستباقية، لديها فكرة واضحة عن أهدافها، و تتمتع بفهم سديد لمحيطها وبمقاربة خلاقة لدورها.

وبكونها أمة دبلوماسية عريقة، فإن المغرب، يتوفر على مكتسب هام يتمثل في دبلوماسيه، نساء ورجالا، يحملون تقليدا دبلوماسيا يعود لمئات السنين، سبق إنشاء وزارة الشؤون الخارجية والتعاون التي جاءت كأحد مظاهر تأكيد السيادة بعد فترة الحماية. وبالتالي، فإن التجربة والخبرة اللتان راكمتهما دبلوماسيتنا اليوم ستسمحان لها من الآن فصاعدا بالبدء في تحولها دون خشية على روحها الأصيلة.

وبصفتكم سفراء لجلالتنا، يجب أن تكونوا في قلب هذا التحول، ونحو هذا نود أن نرى جهودكم تتلاقى: الارتقاء بالدبلوماسية المغربية، من خلال أفكاركم ومساعيكم الفردية والجماعية، لتصل ليس فقط إلى أعلى مراتب الاحترافية والتمكن، كما سبق لها أن أبانت عنه، وإنما أيضا لمرحلة التميز على المستوى العالمي، مليئة بالصعاب، متسلحين بالقناعات والعزيمة، لأن الساحة الدولية ليست أرض معجزات، بل هي ميدان تعتبر فيه أي نتيجة ثمرة تعبئة دائمة وحازمة ومتواصلة عند كل الاختبارات.

وبصفتكم سفراء لجلالتنا، فإن مسؤوليتكم الأولى تكمن في مساعدتنا، بالسرعة التي تتطلبها الفعالية، على اتخاذ القرار الأكثر اطلاعا والأكثر صوابا للأبعاد الخفية التي تواجه سياستنا الخارجية. إن مسؤوليتكم أيضا هي العمل دون كلل، على تعزيز المصلحة الوطنية، مع البقاء قرب دوائر القرار والقوى الحية ببلدان اعتمادكم، مفعلين شبكات الصداقة والتضامن التي ما فتئنا نعمل على نسجها في العالم، في إطار دبلوماسية محددة الأهداف.

إن المغرب اليوم يعتمد على شبكة دبلوماسية وقنصلية تناهز100 بعثة تغطي القارات الخمس. وفي وسعنا بكل حق أن نقدر ما تم قطعه من أشواط، منذ الاستقلال، ونفتخر بوجود شبكة عالمية حقا، قادرة على إسماع صوت المغرب فى جميع أرجاء المعمور والدفاع عن مصالحه، أينما كان الأمر ضروريا، وتقديم المساعدة إلى مواطنينا أينما وجدوا.

لهذا كله، فإن التطور السريع الذي يعرفه العالم يفرض علينا تأقلما مستمرا. ويقتضي ذلك بالضرورة تعزيز حضور بلادنا في العالم لضمان الدفاع عن مصالحنا الحيوية والرقي بقيم السلام والتسامح والبحث عن إمكانيات جديدة للتعاون والتبادل ذات المنفعة المشتركة. ويستدعي هذا المجهود توسيع الشبكة الدبلوماسية للمغرب، وخاصة في إفريقيا وترقية فضاءات جديدة للحوار والتعاون خاصة على مستوى الجوار الاستراتيجي لبلادنا.

وبإعطائنا لكم هذه التعليمات السامية، نؤكد أنه ليس هناك بديل لتعبئة شاملة ودائمة لسفرائنا ودبلوماسيينا لدى أصحاب القرار ودوائر النفوذ وقوى المجتمع المدني بجميع مكوناتها.

وبالموازاة مع الدبلوماسية الرسمية الكلاسيكية، يجب علينا أن نطور دبلوماسية عامة وبرلمانية فاعلة. ورغم أن العمل مع الحكومات يبقى ضروريا، فإنه لم يعد كافيا لوحده في عالم تشكل فيه البرلمانات والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية وأحيانا الشركات الكبرى، مراكز نفوذ وتأثير ذات وزن هام. ولذلك، نحث سفراءنا على مضاعفة الجهود إزاء هؤلاء الفاعلين الدوليين الجدد. فالدبلوماسية العامة والبرلمانية يمكن أن تشكل رافعة قوية سواء لإدارة الأزمات أو لبناء زخم لتوافقات مستدامة.

إلا أنه سواء تعلق الأمر بدبلوماسية مؤسساتية أو عامة أو برلمانية، فإنه يجب النظر إلى المخاطبين كمقياس لعملنا الدبلوماسي والتعامل مع ردود فعلهم كمعايير مهمة لتقييم مدى نجاعته. فأهمية عملنا تعتمد على قدرتنا على تقدير مستمر ليس فقط للسياق الذي نعمل فيه، وإنما أيضا لكيفية تلقي رسائلنا. وبالتالي، فإن الاستباقية والدينامية والتأقلم يجب أن تشكل السمات المميزة لعملنا الدبلوماسي لخدمة أفضل لمصالحنا ولقضيتنا.

إن تحقيق هذه الأهداف يتطلب، إضافة إلى تكييف بنيات وأساليب عمل الدبلوماسية المغربية، تصورا استراتيجيا لمكانة المغرب في العالم، وخاصة دوره داخل محيطه الإقليمي، وهو تصور ينبغي أن يؤكد كون المغرب نقطة التقاء دبلوماسية على الصعيد الإقليمي، حيث يلتقي الاتحاد الأوربي بالبحر الأبيض المتوسط والمغرب العربي بالعالم العربي والساحل بغرب إفريقيا.

ومن هذا المنطلق، نتطلع إلى أن تأخذ علاقات المغرب الثنائية بعدا جديدا يتمثل في دعم دبلوماسيتنا الإقليمية، ومن خلالها، تعزيز مكانتنا على الصعيد متعدد الأطراف، وهو الهدف الذي يجب أن ينصب اهتمام شبكة سفاراتنا في كل من العالم العربي وإفريقيا وأوربا، وفي الأقطار كافة، على تحقيقه، في تنسيق وتكامل كفيلين بأن يشكلا قيمة مضافة لاستراتيجية تموقعنا الإقليمي.

تتجلى أهمية ما سلف كوسيلة للتصدي للهجمة الشرسة التي يشنها خصوم وحدتنا الوطنية والترابية، والتي بلغت مستويات غير مسبوقة، كلما ثبتت عدالة قضيتنا الوطنية وكلما حظي مقترحنا باللجوء إلى الحل السياسي بتعاطف المجتمع الدولي. ثم أن النجاح المتواصل لمقترح الحكم الذاتي، الذي تقدمنا به كحل عادل ونهائي للنزاع الإقليمي المفتعل حول مغربية الصحراء، لا يمكنه إلا أن يحمل دبلوماسيتنا على بذل مزيد من الجهود حتى يتم استيعاب هذا المقترح بشكل أفضل، بل وكذلك دعمه، من قبل المجتمع الدولي.

ويتمثل الالتزام من أجل دبلوماسية نشيطة أيضا من خلال عمل أكثر تنسيقا بين مختلف القطاعات الوزارية التي لها نشاط على المستوى الدولي، خاصة في مرحلة يبعث فيها التعاون التقني على تجاوز القنوات الدبلوماسية المعتادة. فإن كان كل قطاع وزاري يطور تفاعلاته الخارجية في مجالات تخصصه، فإن ذلك لا يغني عن كون وزارة الشؤون الخارجية والتعاون مرجعا لا محيد عنه بالنسبة للحكومة ككل، ذلك أن الوزارة تمتلك نظرة شمولية لعلاقات بلادنا الخارجية، من جهة، ومعرفة أكثر دقة بشركائنا الخارجيين، من جهة أخرى.

السيدات والسادة السفراء،

ليس بالإمكان بلوغ أي من هذه الأهداف الكبرى من دون توفير موارد بشرية ومادية متميزة. وتنفيذا لتعليماتنا السامية، بــُذلت، خلال السنوات الأخيرة، جهود تكللت بالنجاح، غير أنه يجب مواصلتها وتكثيفها من أجل تمكين دبلوماسيتنا من الاضطلاع الأمثل بمهمتها في محيط آخذ في التعقيد.

ويجب أن يرتكز تعزيز الموارد على رصيد الخبرة التي راكمها الأطر ذوو الخبرة العالية ممن عملوا كسفراء لجلالتنا. وفي واقع الأمر، تفرض متطلبات مهنة الدبلوماسي، التي تحتل التجربة فيها مكانة هامة، مواءمة النصوص التشريعية والتنظيمية ليتسنى لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون مواصلة الاستفادة من تأطير السفراء، دون اعتبار لسقف السن المعمول به حاليا.

وفي ما يخص السفراء الذين بلغوا نهاية مسارهم المهني، وكاعتراف بكافة الجهود والخدمات التي قدموها للوطن، تقرر توفير ظروف تقاعد لائق بالنسبة لهم، من خلال العمل على إعادة النظر في قيمة المعاش الاستثنائي الذي يصرف لهم حاليا.

وبالمقابل، يتعين العمل باستمرار على تأهيل وتحديث جهازنا الدبلوماسي، من خلال تقوية هياكله وتزويده بأدوات جديدة وتنمية موارده البشرية، التي هي عماد كل دبلوماسية معاصرة.

وفي هذا الإطار، ينبغي للأكاديمية الدراسات الدبلوماسية، والتي تم إنشاؤها من أجل ضمان تكوين الدبلوماسيين الشباب وتأهيلهم، أن تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي وأن تتوفر على الإمكانات اللازمة لتصير مركزا للتميز في خدمة دبلوماسية بلدنا. وبذلك فإن الأكاديمية مطالبة بالانفتاح على مختلف القطاعات الوزارية التي يتحتم عليها تكوين العاملين بها في مجال العمل الخارجي، إضافة إلى الاستثمار، بنفس القدر من الفائدة، في تكوين دبلوماسيي البلدان الشقيقة والصديقة الراغبة في أن تنهل من التجربة المغربية.

وفي نفس السياق، فإن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون مطالبة بالتوفر على مركز للدراسات الإستراتيجية، بهدف التزود بالتحليلات والأدوات المفاهيمية اللازمة من أجل استيعاب التحولات المتسارعة التي تشهدها الساحة الدولية واستباقها بشكل أفضل. ويجب أن يتوفر هذا المركز على الإمكانات البشرية والمادية المناسبة لتمكينه من الاضطلاع بمهمته في أحسن الظروف، في تشاور مع مؤسسات الفكر والرأي الوطنية والدولية وانفتاح على العالم الأكاديمي والجامعي.

السيدات والسادة السفراء،

نتمنى كامل التوفيق لمؤتمركم، الذي نحيطه برعايتنا السامية، مترجمين بذلك الاهتمام البالغ الذي نوليه له، سائلين الله تعالى أن تكون أشغالكم بمثابة تجديد لدبلوماسية نريدها مناضلة وفاعلة، بفكرة واضحة عن أهدافها وفهم دقيق لمحيطها ومقاربة خلاقة.
Quitter la version mobile